الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة **
ففي أول محرمها مزاحم بن خاقان ثم ابنه أحمد بن مزاحم ثم الأمير أرخوز بن أولوغ طرخان من شهر ربيع الأخر إلى شهر رمضان ثم الأمير أبو العباس أحمد بن طولون. وهي سنة أربع وخمسين ومائتين. فيها قتل بغا الشرابي التركي المعتصمي الصغير كان فاتكًا قد طغى وتجبر وخالف أمر المعتز وكان المعتز يقول: لا ألتذ بطيب الحياة حتى أنظر رأس بغا بين يدي فوقعت أمور بعد ذلك بين بغا والأتراك حتى قتل بغا وأتي برأسه إلى المعتز فأعطى المعتز قاتله عشرة آلاف دينار. وفيها توفي علي بن محمد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب أبو الحسن الهاشمي العسكري أحد الأئمة الاثني عشر المعمودين عند الرافضة وسمي بالعسكري لأن الخليفة المتوكل جعفرًا أنزله مكان العسكر. وكان مولده سنة أربع وعشرين ومائتين. ومات بمدينة سر من رأى في جمادى الآخرة من السنة. وفيها توفي محمد بن منصور بن داود الشيخ أبو جعفر الطوسي الزاهد العابد كان من الأبدال مات في يوم الجمعة لست بقين من شوال وله ثمان وثمانون سنة وسمع سفيان بن عيينة وغيره وروى عنه البغوي وغيره وكان صدوقًا ثقة صالحًا. وفيها توفي المؤمل بن إهاب بن عبد العزيز الحافظ أبو عبد الرحمن الكوفي أصله من كرمان ونزل الكوفة وقدم بغداد وحدث بها وبدمشق وأسند عن يزيد بن هارون وغيره وروى عنه أمر النيل في هذه السنة: الماء القديم خمسة أذرع وتسعة أصابع. مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعًا وستة عشر إصبعًا. ولاية أحمد بن طولون هو أحمد بن طولون الأمير أبو العباس التركي أمير مصر. ولي مصر بعد عزل أرخوز بن أولوغ طرخان في شهر رمضان سنة أربع وخمسين ومائتين وقد مضى من عمره أربع وثلاثون سنة ويوم واحد. وكان أبوه طولون مولى نوح أبن أسد الساماني عامل بخارى وخراسان أهداه نوح في جملة مماليك إلى المأمون بن الرشيد فرقاه المأمون حتى صار من جملة الأمراء. وولد له ابنه أحمد هذا في سنة عشرين ومائتين وقيل في سنة أربع عشرة ومائتين ببغداد وقيل بسر من رأى وهو الأشهر من جارية تسمى هاشم وقيل قاسم. وقيل: إن أحمد هذا لم يكن ابن طولون وإنما طولون تبناه قال أبو عبد الله محمد بن أبي نصر الحميدي: قال بعض المصريين: إن طولون تبناه لما رأى فيه من مخايل النجابة. ودخل عليه يوما وهو صغير فقال: بالباب قوم ضعفاء فلو كتبت لهم بشيء فقال له طولون: ادخل إلى المقصورة وأتني بدواة فدخل أحمد فرأى بالدهليز جارية من حظايا طولون قد خلا بها خادم فأخذ أحمد الدواة وخرج ولم يتكلم فحسبت الجارية أنه يسبقها إلى طولون بالقول فجاءت إلى طولون وقالت: إن أحمد راودني الساعة في الدهليز فصدقها طولون وكتب كتابا لبعض خدمه يأمره بقتل حامل الكتاب من غير مشورة وأعطاه لأحمد وقال: اذهب به إلى فلان فأخذ أحمد الكتاب ومر بالجارية فقالت له: إلى أين فقال: في حاجة مهمة للأمير في هذا الكتاب فقالت: أنا أرسله ولي بك حاجة فدفع إليها الكتاب فدفعته إلى الخادم المذكور وقالت: اذهب به إلى فلان وشاغلت أحمد بالحديث أرادت بذلك أن يزداد عليه الأمير طولون غضبا. فلما وقف المأمور على الكتاب قطع رأس الخادم وبعث به إلى طولونتطولونا رآه عجب وآستدعى أحمد وقال له: اصدقني! ما الذي رأيت في طريقك إلى المقصورة قال: لا شيء قال: اصدقني وإلا قتلتك! فصدقه وعلمت الجارية بقتل الخادم فخرجت ذليلة فقال لها طولون: اصدقيني فصدقته فقتلها وحظي أحمد علي الحديث وقال أحمد بن يوسف: قلت لأبي العباس بن خاقان: الناس فرقتان في ابن طولون فرقة تقول: إن أحمد بن طولون وأخرى تقول: هو ابن يلبخ التركي وأمه قاسم جارية طولون فقال: كذبوا إنما هو ابن طولون. ودليله أن الموفق لما لعنه نسبه إلى طولون ولم ينسبه إلى يلبخ ويلبخ مضحاك يسخر منه وطولون معروف بالستر وقال أحمد بن يوسف المذكور: كان طولون رجلا من أهل طغزغز حمله نوح بن أسد عامل بخارى إلى المأمون فيما كان موظفا عليه من المال والرقيق والبراذين وغير ذلك في كل سنة سنة ثلاثين ومائتين والأول أصح. انتهى كلام ابن يوسف ونشأ أحمد بن طولون على مذهب جميل وحفظ القران واتقنه وكان من أطيب الناس صوتا به مع كثرة الدرس وطلب العلم وتفقه على مذهب الإمام الأعظم أبي حنيفة. ولما ترعرع أحمد تزوج بابنة عمه خاتون فولدت له العباس سنة اثنتين وأربعين ومائتين. ولما مات أبوه طولون فؤض إليه الخليفة المتوكل ما كان لأبيه ثم تنقلت به الأحوال إلى أن ولي إمرة الثغور إمرة دمشق ثم ديار مصر. وكان يقول: ينبغي للرئيس أن يجعل اقتصادة على نفسه وسماحته على من يقصده ويشتمل عليه فإنه يملكهم ملكا لا يزول به عن قلوبهم. ونشأ أحمد بن طولون في الفقه والصلاح والدين والجود حتى صار له في الدنيا الذكر الجميل وكان شديد! الإزراء على الترك وأولادهم لما يرتكبونه في أمر الخلفاء غير راض بذلك ويستقل عقولهم ويقول: حرمة الذين عندهم مهتوكة. وقال الخاقاني وكان خصيصا عند ابن طولون: وقال لي يوما يعني ابن طولون: يا أخي إلى كم نقيم على هذا الإثم مع هؤلاء الموالي! يعني الأتراك لا نطأ موطئا إلا كتب علينا الخطأ والإثم والصواب ان نسأل الوزير أن يكتب أرزاقنا إلى الثغر فسأله فكتب له وخرجنا إلى طرسوس فلما رأى ما الناس عليه من الأمر بالمعروف ومجانبة المنكر أنست نفسه فأقمنا نسمع الحديث مدة ثم رجعت أنا إلى سر من رأى فآستقبلتني أمه قاسم بالبكاء وقالت: مات ابني! فحلفت لها إنه في عافية ثم عدت إلى طرسوس فأخبرته بما رأيت من أمه وقلت له: إن كنت أردت بمقامك في هذه البلاد وجه الله وتدع أمك كذلك فقد أخطأت فوعدني بالخروج من طرسوس ثم خرجنا ونحن زهاء خمسمائة رجل والخليفة يومئذ المستعين بالله وخرج معنا خادم الخليفة ومعه ثياب مثمنة من عمل الروم فسرنا إلى الرها فقيل لنا: إن جماعة من قطاع الطريق على أنتظاركم والمصلحة دخولكم حصن الرها حتى يتفرقوا فقال أحمد: لا يراني الله فارا وقد خرجت على نية الجهاد فخرجنا والتقينا فأوقع بالقوم وقتل منهم جماعة وهرب الباقون فزاد في أعين الناس مهابة وجلالة ووصل الخادم إلى المستعين بالثياب فلما رآها استحسنها فقال له الخادم: لولا ابن طولون ماسلمت ولاسلمنا وحكى له الحكاية فبعث إليه مع الخادم ألف دينار سرا وقال له: عرفه أنني أحبه ولولا خوفي عليه قربته. وكان أبن طولون إذا أدخل على المستعين مع الأتراك في الخدمة أومأ إليه الخليفة بالسلام سرا واستدام الإحسان إليه ووهب له جارية أسمها مياس فولدت له ابنه خمارويه في المحرم من سنة خمسين ومائتين ما تنكر الأتراك للمستعين وخلعوه وأحدروه إلى واسط قالوا له: من تختار أن يكون قي صحبتك فقال: أحمد بن طولون فبعثوه معه فأحسن صحبته. ثم كتب الأتراك إلى أحمد: اقتل المستعين ونوليك واسطًا فكتب إليهم: " لارآني الله قتلت خليفة بايعت له أبدا!! فبعثوا سعيدا الحاجب فقتل المستعين فوارى أحمد بن طولون جثته. ولما رجع أحمد إلى سر من رأى بعدما قتل المستعين أقام بها فزاد محله عند الأتراك فولوه مصر نيابة عن أميرها سنة أربع وخمسين ومائتين. فقال حين دخلها: غاية ماوعدت به في قتل المستعين واسط فتركت ذلك لله تعالى فعوضني ولاية مصر والشام. فلما قتل والي مصر من الأتراك في أيام الخليفة المهتدي صار أحمد بن طولون مستقلا بها في أيام المعتمد. وقيل: إنه ولي الشأم نيابة عن باكباك فلما قتل باكباك آستقل وكان حكمه من الفرات إلى المغرب. وأول مادخل مصر خرج بغا الأصغر وهو أحمد بن محمد بن عبد الله بن طباطبا فيما بين برقة و الاسكندرية في جمادى الأولى سنة خمس وخمسين ومائتين وسار إلى الصعيد فقتل هناك وحمل رأسه إلى مصر في شعبان. ثم خرج آبن الصوفي العلوي وهو إبراهيم بن محمد بن يحيى بن عبد الله بن محمد بن عمر بن علي بن أبي طالب وتوجه إلى أسنا في ذي القعدة فنهب وقتل أهلها وقيل: إن أحمد بن طولون بعث إليه جيشا فكسر الجيش في ربيع الأول سنة ست وخمسين ومائتين وأرسل إليه أبن ثم خرج ابن طولون بنفسه لمحاربة عيسى بن الشيخ ثم عاد وأرسل جيشًا. ثم ورد عليه كتاب الخليفة بأنه يتسلم الأعمال الخارجة عن أرض مصر فتسلم الإسكندرية من إسحاق بن دينار وخرج إليها لثمان خلون من شهر رمضان سنه واستخلف على مصر طغلج صاحب شرطته ثم عاد إلى مصر لأربع عشرة من شوال وسخط على أخيه موسى وأمره بلباس البياض ثم خرج إلى الإسكندرية ثانيا لثمان بقين من شعبان سنة تسع وخمسين ومائتين ثم عاد في شوال. ثم ورد عليه كتاب المعتمد يستحثه في جمع الأموال فكتب إليه ابن طولون: لست أطيق ذلك والخراج في يد غيري فأرسل المعتمد على الله إليه نفيسا الخادم بتقليد ه الخراج وبولايته الثغور الشامية. فأقر أحمد بن طولون عند ذلك أبا أيوب أحمد بن محمد! بن شجاع على الخراج وعقد لطخشي بن بلبرد على الثغور فخرج إليها في سنة أربع وستين ومائتين فصار الأمر كفه بيد أحمد بن طولون وقويت شوكته بذلك وعظم أمره بديار مصر. ولما كان في بعض الأيام ركب يوما ليتصيد بمصر فغاصت قوائم فرسه في الرمل فأمر بكشف ذلك الموضع فظفر بمطلب فيه ألف ألف دينار فأنفقها في أبواب البر والصدقات كما سيأتي ذكرها. وكان يتصدق في كل يوم بمائة دينار غير ما كان عليه من الرواتب وكان ينفق على مطبخه في كل يوم ألف دينار وكان يبعث بالصدقات إلى دمشق والعراق والجزيرة والثغور وبغداد وسر من رأى والكوفة والبصرة والحرمين وغيرها فحسب ذلك فكان ألفي ألف دينار ومائتي ألف دينار. ثم بنى الجامع الذي بين مصر وقبة " ا الهواء على جبل يشكر خارج القاهرة وغرم عليه أموالا عظيمة أحمد الكاتب: أنفق عليه مائة ألف دينار وعشرين ألف دينار. وقال له الصناع: على أي مثال نعمل المنارة وما كان يعبث قط في مجلسه فأخذ درجا من الكاغد وجعل يعبث به فخرج بعضه وبقي بعضه في يده فعجب الحاضرون فقال: اصنعوا المنارة على هذا المثال فصنعوها. ولما تم بناء الجامع رأى أحمد بن طولون في منامه كأن الله تعالى قد تجلى للقصور التي حول الجامع ولم يتجل للجامع فسأل المعبرين فقالوا: يخرب ما حوله ويبقى قائما وحده قال: من أين لكم هذا قالوا: من قوله تعالى: وكان كما قالوا. وقال بعضهم: إن الكنز! الذي لقيه ابن طولون منه عمر ا. لجامع المذكور وكان بناؤه في سنة تسع وخمسين ومائتين. وأما أمر الكنز فإنه ذكر غير واحد من المؤرخين أن أحمد بن طولون كان له كاتب يعرب بابن دشومة وكان واسع الحيلة بخيل اليد زاهدا في شكر الشاكرين لا يهش إلى شيء من أعمال البر وكان ابن طولون من أهل القرآن إذا جرت منه إساءة استغفر وتضرع واتفق أن الخليفة المعتمد أمر ابن طولون أن يتسلم الخراج حسبما ذكرناه فأمتنع من المظالم لدينه ثم شاور كاتبه ابن دشومة المذكور فقال ابن دشومة: يؤمنني الأمير لأقول له ما عندي فقال أحمد بن طولون: قل وأنت آمن فقال: يعلم الأمير أن الدنيا والآخرة ضرتان والشهم من لم يخلط إحداهما بالأخرى والمفرط من جمع بينهما وأفعال الأمير أفعال الجبابرة وتوكله توكل الزهاد وليس مثله من ركب خطة لم يحكمها ولو كنا نثق بالنصر وطول العمر لما كان شيء اثر عندنا من التضييق على أنفسنا في العاجل لعمارة الآجل ولكن الإنسان قصير العمر كثير المصائب والآفات وهذه المظالم قد أجتمع لك منها في السنة ما قدره مائة ألف دينار فبات أحمد بن طولون ليلته وقد حركه قول ابن دشومة فرأى فيما يرى النائم صديقا له كان من الزهاد مات لما كان ابن طولون بالثغر قبل دخوله إلى مصر وهو يقول له: بئس ما أشار عليك ابن دشومة في أمر الأرتفاق واعلم أنه من ترك شيئا لله عوضه الله خيرا منه فارجع إلى ربك وإن كان التكاثر والتفاخر قد شغلاك عنه في هذه الدنيا. فأمض ما عزمت عليه وأنا ضامن لك من الله تعالى أفضل العوض منه قريبا غير بعيد. فلما أصبح أحمد بن طولون دعا ابن دشومة فأخبره بما رأى في نومه فقال له ابن دشومة: أشار عليك رجلان: أحدهما في اليقظة والآخر في المنام وأنت لمن في اليقظة أوجد وبضمانه أوثق فقال ابن طولون: دعني من هذا وأزال جميع المظالم ولم يلتفت إلى كلامه. ثم ركب أحمد بن طولون إلى الصيد فلما سار في البرية آنخفست الأرض برجل فرس بعض أصحابه في قبر في وسط الرمل فوقف أحمد بن طولون عليه وكشفه فوجد مطلبا واسعا فأمر بحمله فحمل منه من المال ما قيمته ألف ألف دينار فبنى منه هذا الجامع والبئر بالقرافة الكبرى والبيمارستان بمصر ووجوه البر ثم دعا بآبن دشومة المقدم ذكره وقال: والله لولا أني أمنتك لصلبتك ثم بعد مدة صادره واستصفى أمواله وحبسه حتى مات. وقيل: إن ابن طولون لما فرغ من بناء جامعه المذكور أمر حاشيته بسماع ما يقول الناس فيه من الأقوال والعيوب فقال رجل: محرابه صغير وقال آخر: ما فية عمود وقال آخر: ليست له ميضأة فبلغه ذلك فجمع الناس وقال: أما المحراب فإني رأيت النبيي! وقد خطه لي في منامي وأصبحت فرأيت النمل قد طافت بذلك المكان الفي خطه لي رسول الله وأما العمد فإني بنيت هذا الجامع من مال حلال وهو الكنز وما كنت لأشوبه بغيره وهنه العمد إما أن تكون في مسجد أو كنيسة فنزهته عنها وأما الميضأة فإني نظرت فوجدت ما يكون بها منا النجاسات فطهرته عنها وهأنا أبنيها خلفه وأمر ببنائها. وقيل: إنه لما فرغ من بنائه رئى في منامه كأن نارًا نزلت من السماء فأخذت الجامع دون ماحوله من العمران فلما أصبح قص رؤياه فقيل له: أبشر بقبول الجامع المبارك لأن النار كانت في الزمن الماضي إذا قبل الله قربانا نزلت نار من السماء أخذته ودليله قصة قابيل وهابيل. وكان حول الجامع العمران ملاصقة له حتى قيل: إن مسطبة كانت خلف الجامع وكانت ذراعا في ذراع لاغير فكانت أجرتها في كل يوم اثني عشر درهما: في بكرة النهار يقعد فيها شخص يبيع الغزل ويشتريه بأربعة دراهم ومن الظهر إلى العصر لخباز بأربعة دراهم ومن العصر إلى المغرب لشخص يبيع فيها الحمص والفول بأربعة دراهم. قلت: هذا مما يدل على أن الجامع المذكور كان في وسط العمران. وهذا الجامع على جبل يشكر كما ذكرناه وهو مكان مشهور بإجابة الدعاء وقيل: إن موسى عليه السلام ناجى ربه جل جلاله عليه بكلمات. ويشكر المنسوب إليه هذا الجبل هو ابن جزيلة! من لخم. انتهى وأنفق ابن طولون على البيمارستان ستين ألف دينار وعلى حصن الجزيرة ثمانين ألف دينار وعلى الميدان خمسين ألف دينار وحمل إلى الخليفة المعتمد في مدة أربع سنين ألفي ألف دينار ومائتي ألف دينار. وكان خراج مصر في أيامه أربعة آلاف ألف وثلاثمائة ألف دينار هذا مع كثرة صدقاته وإنفاقه على مماليكه وعسكره. وقد قال له وكيله في الصدقات: ربما آمتدت إلي الكف المطوقة والمعصم فيه السوار والكم الناعم أفأمنع هذه الوظيفة فقال له: ويحك! هؤلاء المستورون الذين يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف احذر أن ترد يدا امتدت إليك. وقيل: إنه حسن له بعض التجار التجارة فدفع له أحمد بن طولون خمسين ألف دينار يتجر له بها فرأى ابن طولون بعد ذلك في منامه كأنه يمشمش عظمًا فدعا المعبر وقص عليه فقال: قد سمت همتك إلى مكسب لايشبه خطرك فأرسل ابن طولون في الحال إلى التاجر وأخذ المال منه فتصدق به. وكان جميع خصال ابن طولون محمودة إلا أنه كان حاد الخلق والمزاج فإنه لما ولي مصر والشام ظلم كثيرًا وعسف وسفك كثيرًا من الدماء. يقال: إنه مات في حبسه ثمانية عشر ألفا فرأى في منامه كأن الحق سبحانه قد مات في داره فآستعظم ذلك وانتبه فزعًا وجمع المعبرين فلم يدروا فقال له بعضهم: أقول ولي الأمان قال نعم قال: أنت رجل ظالم قد أمت الحق في دارك! فبكى. وكان فيه ذكاء وفطنة وحدس ثاقب. قال محمد بن عبد الملك الهمذاني: إن ابن طولون جلس يأكل فرأى سائلا فأمر له بدجاجة ورغيف وحلواء فجاءه الغلام فقال: ناولته فماهش له فقال ابن طولون: علي به فلما مثل بين يديه لم يضطرب من الهيبة فقال له ابن طولون: أحضر لي الكتب التي معك وآصدقني فقد صح عندي أنك صاحب خبر وأحضر السياط فاعترف فقال له بعض من حضر: هذا والله السحر الحلال! قال ابن طولون: ما هو سحر ولكنه قياس صحيح رأيت سوء حاله فسيرت له طعاما يشره له الشبعان فماهش له فأحضرته فتلقاني بقوة جأش فعلمت أنه صاحب خبر لا فقير فكان كذلك. وقال أبو الحسين الرازي: سمعت أحمد بن أحمد بن حميد بن أبي العجائز وغيره من شيوخ دمشق قالوا: لما دخل أحمد بن طولون دمشق وقع بها حريق عند كنيسة مريم فركب ابن طولون إليه ومعه أبو زرعة النصري وأبو عبد الله أحمد بن محمد الواسطي كاتبه فقال ابن طولون لأبي زرعة: ما يسمى هذا الموضع قال: كنيسة مريم فقال أبو عبد الله: أكان لمريم كنيسة قال: ما هي من بناء مريم وإنما بنوها على أسمها فقال ابن طولون: ما لك وللاعتراض على الشيخ! ثم أمر بسبعين ألف دينار من ماله وأن يعطى لكل من أحترق له شيء ويقبل قوله ولاستحلف فأعطوا لمن ذهب ماله وفضل من المال أربعة عشر ألف دينار ثم أمر بمال عظيم أيضًا ففرق في فقراء أهل دمشق والفوطة وأقل ما أصاب الواحد من المستورين دينار وعن محمد بن علي الماذرائي قال: كنت أجتاز بتربة أحمد بن طولون فأرى شيخا ملازما للقراءة على قبره ثم إني لم أره مدة ثم رأيته فسألته فقال: كان له علينا بعض العدل إن لم يكن الكل فأحببت أن أصله بالقراءة قلت: فلم انقطعت قال: رأيته في النوم وهو يقول: أحب ألا تقرأ عندي فما تمر بآية إلا قرعت بها وقيل: أما سمعت هذه! انتهى. قلت: ولما ولي أحمد بن طولون مصر سكن العسكر على عادة أمراء مصر من قبله ثم أحب أن يبني له قصرا فبنى القطائع. والقطائع قد زالت آثارها الآن من مصر ولم يبق لها رسم يعرف وكان موضعها من قبة الهواء التي صار مكانها الآن قلعة الجبل إلى جامع ابن طولون المذكور وهو طول القطائع وأما عرضها فإنه كان من أول الزميلة من تحت القلعة إلى الموضع آلفي يعرف الآن بالأرض الصفراء عند مشهد الرأس الذي يقال له الآن زين العابدين وكانت مساحة القطائع ميلا في ميل. وقبة الهواء كانت في السطح الذي عليه قلعة الجبل. وتحت قبة الهواء كان قصر ابن طولون. وموضع هذا القصر الميدان السلطاني الآن الذي تحت قلعة الجبل بالرميلة. وكان موضع سوق الخيل والحمير والبغال والجمال بستانا. ويجاورها الميدان الذي يعرف اليوم بالقبيبات فيصير الميدان فيما بين القصر والجامع الذي أنشأه أحمد بن طولون المعروف به. وبجوار الجامع دار الإمارة في جهته القبلية ولها باب من جدار الجامع يخرج منه إلى المقصورة المحيطة بمصلى الأمير إلى جوار المحراب وهناك دار الحرم. والقطائع عدة قطع يسكن فيها عبيد الأمير أحمد بن طولون وعساكره وغلمانه. قلت: والقطائع كانت بمعنى الأطباق التي للمماليك السلطانية الآن وكانت كل قطيعة لطائفة تسمى بها فكانت قطيعة تسمى قطيعة السودان وقطيعة الروم وقطيعة الفراشين وهم نوع من الجمدارية الآن ونحو ذلك. وكانت كل قطيعة لسكن جماعة ممن ذكرنا وهي بمنزلة الحارات اليوم. وسبب بناء ابن طولون القصر والقطائع كثرة مماليكه وعبيده فضاقت دار الإمارة عليه فركب إلى سفح الجبل وأمر بحرث قبور اليهود والنصارى واختط موضعهما وبنى القصر والميدان المقدم ذكرهما ثم أمر لأصحابه وغلمانه أن يختطوا لأنفسهم حول قصره وميدانه بيوتا واختطوا وبنوا حتى أتصل البناء بعمارة الفسطاط - أعني بمصر القديمة ثم بنيت القطائع وسميت كل قطيعة باسم من سكنها. قال القضاعي: وكان للنوبة قطيعة مفردة تعرف بهم وللروم قطيعة مفردة تعرف بهم وللفراشين قطيعة مفردة تعرف بهم ولكل صنف من الغلمان قطيعة مفردة تعرف بهم ة وبنى القواد مواضع متفرقة وعمرت القطائع عمارة حسنة وتفرقت فيها السكك والأزقة وعمرت فيها المساجد الحسان والطواحين والحمامات والأفران والحوانيت والشوارع. وجعل ابن طولون قصرًا كبيرًا فيه ميدانه الذي يلعب فيه بالكرة وسمي القصر كله الميدان وعمل للقصر أبوابا لكل باب أسم فباب الميدان الكبير كان منه الدخول والخروج لجيشه وخدمه وباب الخاصة لا يدخل منه إلا خاصته وباب الجبل الذي يلي جبل المقطم وباب الخدم لايدخل منه إلاخادم خصي أو حرمة وباب الدرمون كان يجلس فيه حاجب أسود عظيم الخلقة يتقفد جنايات الغلمان السودان الرجالة فقط وأسمه الدرمون وبه سمي الباب المذكور وباب دعناج لأنه كان يجلس فيه حاجب يقال له دعناج وباب الساج لأنه كان عمل من خشب الساج وباب الصلاة لأنه كان يخرج منه إلى الصلاة وكان بالشارع الأعظم وكان هذا الباب يعرف بباب السباع لأنه كانت عليه صورة سبعين من جبس وكانت هذه الأبواب لا تفتح كلها إلا في يوم العيد أو يوم عرض الجيش أو يوم صدقة وما كانت تفتح الأبواب إلا بترتيب في أوقات معروفة وكان للقصر شبابيك تفتح من سائر نواحي الأبواب تشرف كل جهة على. . ولما بنى هذا القصر والميدان وعظم أمره زادت صدقاته ورواتبه حتى بلغت صدقاته المرتبة في الشهر ألفي دينار سوى ما كان يعطي ويطرأ عليه وكان يقول: هذه صدقات الشكر على تجديد النعم ثم جعل مطابخ للفقراء والمساكين في كل يوم فكان يذبح فيها البقر والغنم ويفرق للناس في القدور الفخار والقصع ولكل قصعة أو قدر أربعة أرغفة: في اثنين منها فالوذج والاثنان الآخران على القحر أو القصعة وكان في الغالب يعمل سماط عظيم وينادي في مصر: من أحب أن يحضر سماط الأمير فليحضر ويجلس هو بأعلى القصر ينظر ذلك ويأمر بفتح جميع أبواب الميدان ينظرهم وهم يأكلون ويحملون فيسره ذلك ويحمد الله على نعمته. ثم جعل بالقرب من قصره حجرة فيها رجال سماهم بالمكبرين عدتهم اثنا عشر رجلا يبيت في كل ليلة منهم أربعة يتعاقبون بالليل نوبا يكبرون ويهللون ويسبحون ويقرؤون القرآن بطيب الألحان ويترسلون بقصائد زهدية ويؤذنون أوقات الأذان وكان هو أيضًامن أطيب الناس صوتا. قلت: ولهذا كان في هذه الرتبة لأن الجنسية علة الضم. ولازال على ذلك حتى خرج من مصر إلى طرسوس ثم عاد إلى أنطاكية في جيوشه بعد أن كان وقع له مع الموفق أمور ووقائع يأتي ذكرها في حوادث سنيه على مصر. وكان قد أكل من لبن الجاموس وأكثر منه وكان له طبيب اسمه سعيد بن توفيل نصراني فقال له: ما الرأي. فقال له: لا تقرب الغذاء اليوم وغدا وكان جائعا فاستدعى خروفا وفراريج فأكل منها وكان به علة القيام فامتنع فأخبر الطبيب فقال: إنا لله! ضعفت القوة المدافعة بقهر الغذاء لها فعالجه فعاوده! الإسهال فخرج من أنطاكية في محفة تحمله الرجال فضعف عن ذلك فركب البحر إلى مصر فقيل لطبيبه: لست بحاذق فقال: والله ماخدمتي له إلا خدمة الفأر للسنور وإن قتلي عنده أهون علي من صحبته!. ولما دخل ابن طولون إلى مصر على تلك الهيئة آستدعى الأطباء وفيهم الحسن بن زيرك فقال لهم: والله لئن لم تحسنوا في تدبيركم لأضربن أعناقكم قبل موتي فخافوا منه وماكان يحتمي ويخالفهم. ولما آشتد مرضه خرج المسلمون بالمصاحف واليهود والنصارى بالتوراة والإنجيل والمعلمون بالصبيان إلى الصحراء ودعوا له وأقام المسلمون بالمساجد يختمون القرآن ويدعون له فلما أيس من نفسه رفع يديه إلى السماء وقال: يارب آرحم من جهل مقدار نفسه وأبطره حلمك عنه ثم تشهد ومات بمصرفي يوم الاثنين لثمان عشرة خلت من ذي القعدة سنة سبعين ومائتين وولي مصر بعده آبنه أبو الجيش خمارويه ومات وعمره خمسون سنة بحساب من قال إن مولده سنة عشرين ومائتين. وكانت ولايته على مصر سبع عشرة سنة. وقيل: إنه لما ثقل في الضعف أرسل إلى القاضي بكاربن قتيبة الحنفي وكان قد حبسه في دار بسبب نحكيه هنا بعدما نذكر ما أرسل يقول له فجاء الرسول إلى بكار يقول له: أنا أردك إلى منزلتك وأحسن فقال القاضي بكار: قل له: شيخ فان وعليل مدنف والملتقى قريب والقاضي الله عز وجل. فأبلغ الرسول أبن طولون ذلك فأطرق ساعة ثم أقبل يقول: شيخ فان وعليل مدنف والملتقى قريب والقاضي الله! وكرر ذلك إلى أن غشي عليه ثم أمر بنقله من السجن إلى دار آكتريت له. وأما سبب انحراف أحمد بن طولون على القاضي بكار فلكون أن أبن طولون دعا القاضي بكارًا لخلع الموفق من ولاية العهد للخلافة فامتنع فحبسه لأجل هذا وكرر عليه القول فلم يقبل وئالا وكان أولا من أعظم الناس عند آبن طولون. قال الطحاوى: ولا أحصي كم كان أحمد بن طولون يجيء إلى مجلس بكار وهو على الحديث ومجلسه مملوء بالناس ويتقدم الحاجب بقول: لا يتغير أحد من مكانه فما يشعر بكار إلا وابن طولون إلى جانبه فيقول له: أيها الأمير ألا تركتني حتى كنت أقضي حقك وأؤدي واجبك! أحسن لله جزاءك وتولى مكافأتك ثم فسد الحال بينهما حتى حبسه. قال القاضي شمس الدين أحمد بن محمد بن خلكان: كان أحمد بن طولون دفع إلى القاضي بكار في العام ألف دينار سوى المقرر له فيتركها بكار بختمها ولا يتصرف فيها فلما دعاه " ابن طولون لخلع الموفق من ولاية العهد أمتنع آعتقله وطالبه بحمل الذهب فحمله إليه بختومه وكان ثمانية عشر كيسا في كل كيس ألف دينار فآستحى ابن طولون عند ذلك من الملأ. قلت: هذا هو القاضي الذي في الجنة رحمه الله تعالى. وقال أبو عيسى اللؤلئي: رآه بعض أصحابه المتزهدين في حال حسنة في المنام يعني ابن طولون فقال له: ما فعل الله بك. وكيف حالك. قال: لا ينبغي لمن سكن الدنيا أن يحتقر حسنة فيدعها ولا سيئة فيرتكبها عدل بي عن النار إلى الجنة بتريثي على متظلم عيي اللسان شديد التهيب فسمعت منه وصبرت عليه حتى قامت حجته وتقدمت بإنصافه وما في الآخرة على الرؤساء أشد من الحجاب لملتمسي الإنصاف. ورثاه كثير من الشعراء من ذلك ما قاله بعض المصريين: يا غرة الدنيا الذي أفعاله غرر بها كل الورى تتعلق أنت الأمير على الشآم وثغره والرقتين وما حواه المشرق وإليك مصر وبرقة وحجازها كل إليك مع المدى يتشوق وخلف ابن طولون ثلاثة وثلاثين ولدا منهم سبعة عشر ذكرا وهم: العباس وخمارويه الفي ولي مصر بعد موته وعدنان ومضر وشيبان وربيعة وأبو العشائر وهؤلاء أعيانهم. فأما العباس فهو الذي كان عصى على والده ودخل الغرب وحمل إلى أبيه أحمد فحبسه ومات وهو في حبسه ومات بعد أبيه بيسير وكان شاعرا وهو القائل: لله دري إذ أعدو على فرسي إلى الهياج ونار الحرب تستعر وفي يدي صارم أفري الرؤوس به في حدة الموت لا يبقي ولا يذر إن كنت سائلة عني وعن خبري فها أنا الليث والصمصامة الذكر وكان أبوه أحمد بن طولون لما خرج إلى الشام في السنة الماضية أخذه مقيدًا معه وعاد به على ذلك. وخلف أحمد بن طولون في خزائنه من الذهب النقد عشرة آلاف ألف دينار ومن المماليك سبعة آلاف مملوك أومن الغلمان أربعة وعشرين ألف غلام ومن الخيل الميدانية سبعة آلاف رأس ومن البغال والحمير ستة آلاف رأس ومن الدواب لخاصته ثلاثمائة ومن مراكبه الجياد مائة. وكان ما يدخل إلى خزائنه في كل سنة بعد مصاريفه ألف ألف دينار. رحمه الله تعالى.
|